لطالما كانت علاقة التكنولوجيا بالرياضة عموماً وبكرة القدم خصوصاً علاقة جدلية, تحتمل الكثير من الآراء ووجهات النظر, وتقوم على تفاصيل وجزئيات دقيقة.
فما يتفق عليه الجميع هو أنّ اللعبة الشعبية الأولى في العالم – والتي اشتهرت تاريخياً بكونها لعبة الفقراء – قد أصبحت اليوم مرتبطةً بظاهرة العولمة إلى حدٍ يصعب معه أن تستمر اللعبة بمعزلٍ عن مظاهر التقدم التكنولوجي, وهذا ما يبدو واضحاً من خلال عدة أمثلة بدءاً بنظام التشفير والحقوق الحصرية, والشركات الراعية للبطولات الكبرى, وصولاً إلى الدور الذي باتت تلعبه مؤخراً مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع الالكترونية في هذا المجال.
إلا أن استخدام التكنولوجيا في تحكيم مباريات كرة القدم كان ولا يزال – وربما سيبقى – الشغل الشاغل لمعظم جماهير كرة القدم التي انقسمت حول هذا الموضوع بين من يرى ضرورة المحافظة على الوضع القائم حالياً, أي عدم التخلي عن دور العين المجردة في التحكيم, ومن يعتقد بأن الوقت قد حان لاستخدام تقنياتٍ حديثةٍ من شأنها أن تضمن تحقيق (العدالة الرياضية) التي لازلنا نفتقدها حتى الآن في كثيرٍ من مباريات كرة القدم.
فأنصار الرأي الأول يستندون إلى جملةٍ من الأسباب التي يعتبرونها كافيةً لتبرير رأيهم, ومن أهمها:
• إن الأخطاء التحكيمية هي جزءٌ لا يتجزأ من لعبة كرة القدم, شأنها شأن الملاعب واللاعبين والجمهور, بل إنّها تشكل – حسب رأيهم – عنصراً جمالياً يضفي على اللعبة طابعاً خاصاً لا يمكن تعويضه.
• إنّ الإبقاء على دور البشر في تحكيم مباريات كرة القدم من شأنه أن يحافظ على بعض العفوية التي بدأت اللعبة تفتقدها شيئاً فشيئاً مع استمرار تدخّل التكنولوجيا في شتى تفاصيلها.
• إنّ قرار الاستغناء عن (أنسنة) التحكيم من شأنه الإضرار بمصلحة من يعنيهم الأمر مباشرةً, أي حكام كرة القدم, ناهيك عما يتضمنه مثل هذا القرار من إساءةٍ ونكرانٍ لجهود هذه الفئة التي قدمت لكرة القدم الكثير من العطاءات عبر التاريخ.
أما أنصار استخدام التكنولوجيا في التحكيم, فيبررون وجهة نظرهم بما يلي:
• إن نسبةً كبيرةً من الناس تلجأ أساساً إلى متابعة مباريات كرة القدم بحثاً عن المتعة والابتعاد عن هموم الحياة وتعقيداتها, فلماذا لا نقدم لهؤلاء كرة قدمٍ مثاليةً تتسم بالعدالة – التي ربما كان هؤلاء قد افتقدوها في مجالاتٍ أخرى – إن كان بوسعنا أن نفعل ذلك ؟
• إنّ الأخطاء التحكيمية قد حرمت الكثير من المنتخبات والأندية على مختلف الأصعدة من الوصول إلى منصات التتويج, ويزداد الوضع سوءاً عندما يتعلق الأمر بتحكيم مباريات كأس العالم, حيث يكون من شأن هفوةٍ تحكيميةٍ واحدةٍ أن تطيح بجهد أربعِ سنواتٍ من العمل والتحضير والترقب, وهو ما حدث بالفعل في مناسباتٍ كثيرةٍ, من أبرزها ما جرى في نهائي مونديال 1966 بين إنكلترا وألمانيا من احتساب هدفٍ غير شرعيٍ للمنتخب الإنكليزي (المضيف), فضلاً عن الكوارث التحكيمية التي شهدها مونديال 2002, وغيرها الكثير من الشواهد والأمثلة التي تؤكد مدى تأثير سوء التحكيم على نتائج المباريات المهمة.
• إنّ حكم مباراة كرة القدم هو بشرٌ في نهاية المطاف, فمهما افترضنا لديه من الاحتراف ومن حسن النية, فإنه يبقى عرضةً للوقوع في أخطاءٍ جسيمةٍ, لاسيما مع ضرورة اتخاذه قراراتٍ آنيةً وحاسمةً, قد يتعين عليه اتخاذها في أوقاتٍ صعبةٍ من المباريات, أو تحت ضغط جمهورٍ كبيرٍ من المشجعين.
ويبدو أن أصحاب الرأي الثاني هم الأغلبية السائدة حالياً, مما يفسر اهتمام مسؤولي (الفيفا) مؤخراً بهذه الشريحة الواسعة من الجمهور ومحاولة إرضاءها.
وعلى ذلك, فقد بدأ هؤلاء يحققون انتصاراتٍ مهمةً في هذا الميدان, كان آخرها اعتماد تكنولوجيا خط المرمى في معظم بطولات كرة القدم الأوروبية ومسابقاتها الكبرى, إلا أنهم لا زالوا يعملون على تحقيق مزيدٍ من الانجازات, وصولاً إلى تحكيمٍ عادلٍ, يعتمد على التكنولوجيا بشكلٍ كلي.
ومهما يكن من أمرٍ, فإن استخدام التكنولوجيا الحديثة في التحكيم يبدو أقرب إلى المنطق, خاصةً وأن مستوى التحكيم قد تراجع بشكلٍ ملحوظٍ في الآونة الأخيرة, وأصبح موضع جدلٍ في كثيرٍ من الأحيان, إلا أن تطبيق ذلك على أرض الواقع قد يكون صعباً للغاية, نظراً لأن لعبة كرة القدم هي – بطبيعة الحال – لعبةٌ عالميةٌ لا تقتصر على قارةٍ أو بطولةٍ معينةٍ, مما يتطلب إدخال هذه التقنيات المكلفة إلى كافة دول العالم على اختلاف مستوياتها وظروفها الاقتصادية, وبالتالي فإنه لابدّ من حل هذه المشكلة أولاً كشرطٍ أساسيٍ لتغيير نظام التحكيم, وإلّا فإن كرة القدم ستصبح حكراً على طبقةٍ معينةٍ من البشر, وستبتعد عن جمهورها أكثر فأكثر.
محمد نور داود